الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (6): {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}{خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} إلخ دليل آخر على الوحدة والقهر.وترك عطفه على {خُلِقَ السموات} [الزمر: 5] للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي، والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل:والمراد بالنفس آدم عليه السلام، وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها، أو على {واحدة} لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اليل سَكَنًا} [الأنعام: 96] ويعتبر ماضيًا لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على {خَلَقَكُمْ} لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي، ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه، وقيل إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه السلام من ظهره كالذر ثم خلق منه حواء فالمراد بخلقهم منه إخراجهم من ظهره كالذر فالعطف على {خَلَقَكُمْ} وثم على ظاهرها، وهذا لا يقبل إلا إذا صح مرفوعًا أو في حكمه، وقد تضمنت الآية ثلاث آيات خلق آدم عليه السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه وخلق ذريته التي لا يحصى عددها إلا الله عز وجل، وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج} استدلال بنوع آخر من العالم السفلي، والإنزال مجاز عن القضاء والقسمة فإنه تعالى إذا قضى وقسم أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ونزلت به الملائكة الموكلة بإظهاره، ووصفه بالنزول مع أنه معنى شائع متعارف كالحقيقة والعلاقة بين الإنزال والقضاء الظهور بعد الخفاء ففي الكلام استعارة تبعية، وجوز أن يكون فيه مجاز مرسل، ويجوز أن يكون التجوز في نسبة الإنزال إلى الأنعام والمنزل حقيقة أسباب حياتها كالأمطار ووجه ذلك الملابسة بينهما، وقيل يراد بالأزواج أسباب تعيشها أو يجعل الإنزال مجازًا عن إحداث ذلك بأسباب سماوية وهو كما ترى، وقيل الكلام على ظاهره والله تعالى خلق الأنعام في الجنة ثم أنزلها منها ولا أرى لهذا الخبر صحة، والأنعام الإبل والبقر والضان والمعز وكانت ثمانية أزواج لأن كلًا منها ذكر وأنثى، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارًا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر، وقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمهاتكم} بيان لكيفية خلق من ذكر من الأناسي والأنعام إظهارًا لما فيه من عجائب القدرة، وفيه تغليبان تغليب أولى العقل على غيرهم وتغليب الخطاب على الغيبة كذا قيل، والأظهر أن الخطاب خاص وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد، وقوله تعالى: {خَلْقًا مّن بَعْدِ خَلْقٍ} مصدر مؤكد أن تعلق من بعد بالفعل وإلا فغير مؤكد أي يخلقكم فيها خلقًا مدرجًا حيوانًا سويًا من بعد عظام مكسوة لحمًا من بعد عظام عارية من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة فقوله سبحانه: «خلقا من بعد خلق» لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين.وقرأ عيسى. وطلحة {يَخْلُقُكُمْ} بادغام القاف في الكاف {فِى ظلمات ثلاث} ظلمة البطن والرحم والمشيمة، وقيل ظلمة الصلب والبطن والرحم، والجار والمجرور متعلق بيخلقكم، وجوز الشهاب تعلقه بخلقًا بناء على أنه غير مؤكد وكونه بدلًا من قوله تعالى: {فِى بُطُونِ أمهاتكم} {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة على وجه بدل على بعد منزلته تعالى في العظمة والكبرياء، واسم الإشارة مبتدأ والاسم الجليل خبره و{رَبُّكُمْ} خبر بعد خبر والاسم الجليل نعت أو بدل وهو الخبر أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيها بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه: {لَهُ الملك} على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره تعالى شركة ما في ذلك بوجه من الوجوه والجملة خبر آخر، وقوله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملة متفرعة على ما قبلها ولم يصرح معها بالفاء التفريعية اعتمادًا على فهم السامع. وفي إرشاد العقل السليم أنه خبر آخر، والفاء في قوله تعالى: {فَإِنّي تُصْرَفُونَ} لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شؤونه عز وجل أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها. .تفسير الآية رقم (7): {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}{إِن تَكْفُرُواْ} به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشكر {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي فاخبركم أنه عز وجل غنى عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} لما فيه من الضرر عليهم {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ} أي الشكر {لَكُمْ} لما فيه من نفعكم، ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال: عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي، والرضا إما عنى المحبة أو عنى الإرادة مع ترك الاعتراض ويقابلة السخط كما في «شرح المسايرة» فعباده على ظاهره من العموم، ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولون قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه «الأصول والضوابط». وابن الهمام عن الأشعري. وإمام الحرمين كذا قاله الحفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي. والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جدًا ما نصه مسألة مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جلا وعلا، وهل يقال إنه تعالى يرضي المعاصي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره، قال إمام الحرمين في الإرشاد: مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء، فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} ومن حقق من أتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا عنى واحد قال: والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفًا لهم كما في قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] أي خواصهم لأكلهم اه فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي، وحكى تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس.وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضهم نظير قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} [الأنعام: 103] على قول، ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه فإذا قلت: رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا في مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت: رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت: سخطت عليه باساءته تعين السببية فكان الأصل هاهنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الاستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف، وإذا قيل: رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدًا للمعنى ليكون أبلغ تقول: رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عز وجل ربا وقاضيًا، وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدى بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك: رضيت زيدًا وإن كان باعتبار المعنى تنبيهًا على أن كله مرضى بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك: رضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالًا وهو على نحو قولهم: حمدت زيدًا وحمدت علمه، وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريبًا، وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه، وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح كان لا يخفى على ذي عينين، وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت: رضيت لك التجارة فالمراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة هاهنا بين الواقع عليه الفعل والداخل عليه اللام ثم إنه قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملاءمة وقد لا يرضى، وفيه نجوز إما لجعل الرضا مجازًا عن الاستحماد لأن كل مرضى محمود أو لأنك جعلت كونه مرضيًا له نزلة كونه مرضيًا لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أريد الاستحماد وأن مثل قوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] إما من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور، وأن مثل قوله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} [المائدة: 3] متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة أيضًا فإذن قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الاسلام لهم ويرتضيه، وأما أنه لا يرد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وأن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق العطن وأن قول المحققين رضي الله تعالى عنهم: إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم.والزخشري عامله الله تعالى بعدله فسر الرضا في نحوه بالاختيار وهو لا ينفك عن الإرادة، وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول: لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد على الباطل إكمالًا للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى: {ءانٍ} إلى قوله سبحانه: {تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} تنبيهًا على الغني الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه، ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك، وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل {يَرْضَهُ لَكُمْ} للتنبيه على مزيد الاختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحاردون إدراك طائفة من لطائفة الفكر البشري والله تعالى أعلم اه. وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلا أنه را يقال إنه: لا يتمشى على مذهب السلف حيث أنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أنه ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب، وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروي الأوام ويبرئ السقام فنقول عمد التأويل لا يضر فيما نحن بصدده فالرضا ان أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر الساق، وممن صرح بذلك ابن عطية قال: تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضًا إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه تعالى قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عز وجل فقال: هب أن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين اليس يدعى أو يدعي له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة الإجادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقًا وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقًا أليس مقتضى العربية فضلًا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلًا ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلًا واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلًا مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطًا وجزاء وجعل وقوع الشكر شرطًا ومجزيا واللازم من ذلك عقلًا تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلًا ونقلًا تعين المحمل الصحيح له وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضى عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وان تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجري الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة وانتظم ذلك قتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة عقلًا، ومثل هذا يقال في قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي لا يجازي الكافر مجازاة المرضى عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة انتهى.لا يقال: حيث كان قوله تعالى: {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى: {يَرْضَهُ لَكُمْ} جزاء بذلك الاعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخرًا لأنا نقول: مثل هذا الاعتبار شائع في الجملة الاسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدُيرٌ} [الأنعام: 17] وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الاعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى، ثم أنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة الإرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية، وذكرًا أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضى له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا، وقرأ ابن كثير. ونافع في رواية، وأبو عمرو. والكسائي {يَرْضَهُ} باشباع ضمة الهاء، والقاعدة في أشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وههنا قبلها ساكن تقديرًا وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكمًا لم تشبع كما في قراءة ابن عامر.وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبه وتختلس في غير ذلك وقد يحسن أشباعها مع فقد الشرط لنكتة، وقرأ أبو بكر {يَرْضَهُ} بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال: هو غلط لا يجوز، وفيه أنه لغة لبني كلاب، وبني عقيل إجراء للوصول مجرى الوقف.{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فتذكر.
|